بقلم: أ. محمد صديق، باحث إجتماعي 

برز موضوع التنوع الثقافي كقضية رئيسية في الفترة الأخيرة، بل أصبح من أكثر مواضيع النقاش في العالم بسبب النزاعات الإثنية والمذهبية واللغوية والدينية تزامناً مع الكم الهائل من التنوع الثقافي والتعددية الثقافية في الوقت الراهن، كما صارت المجتمعات الآن مزيجاً من الأجناس تنتمي لثقافات وبيئات متنوعة، وهذا التنوع الاجتماعي يشكل ثراءًا ثقافيًا للمجتمع، يمنحه قوة وخصوصية وحيوية.
 
كما أن العالم يعيش اليوم صراعات وحروب ومواجهات صدامية بين الدول، ويمر بأزمات عدة، غالبيتُها نشأت من التطرف الديني، ومن التمييز العرقي، وأصبح الأفراد في بعض المجتمعات يعيشون داخل مجموعات منفصلة تتميز بجهل الواحدة للأخرى وبالأفكار النمطية المتبادلة.

هذا الموضوع، الذي نحن بصدده، يعد من الموضوعات المهمة ذات الأبعاد الإنسانية، التي تحظى باهتمام واسع من قبل المجتمع الدولي وسنعرض من خلال هذا المقال أهمية التنوع الثقافي، أولاً، ثم ثانيًا، دور التنوع الثقافي في تعزيز التماسك المجتمعي.
  
التنوع الثقافي من أجل الحوار والتنمية، يوم اعتمدته الجمعية العمومية للأمم المتحدة في دورتها الحادية والثلاثين والتي عقدت في 2 نوفمبر 2001، وذلك لتعميق مفهوم قيم التنوع الثقافي وزيادة الوعي حول طبيعة العلاقة الماسة والضرورية بين الثقافة والتنمية.

"تمثل الثقافة ما نمثله نحن البشر، فهي هويتنا وأحلامنا باﻟﻤستقبل، وتتغذى الثقافات بعضها من بعض، ويمثل هذا التنوع مصدراً لتجدد الأفكار واﻟﻤجتمعات، حيث ينطوي على إمكانات هائلة لتيسير النمو والحوار واﻟﻤشاركة الاجتماعية" - السيدة إيرينا بوكوفا  اﻟﻤدير العام  الأسبق لمنظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة.

يقول ابن خلدون في مقدمته "إن الإنسان اجتماعي بطبعه" وهذا يعني أن الإنسان فطر على العيش مع الجماعة والتعامل مع الآخرين فهو لا يقدر على العيش وحيدًا بمعزل عنهم مهما توفرت له سبل الراحة والرفاهية . لذلك، فإن الإنسان كائن اجتماعي لا يمكن له العيش في معزل عن الجماعة، ويجب أن يقترب من بعضه البعض من خلال التساكن والتعايش والمشاركة الجماعية. وهذه العلاقة الاجتماعية يوطدها أكثر عن طريق التنوع. 

إن جوهر التنوع الثقافي يكمن في إمكانية توسيع آفاقنا بحقوق الإنسان التي تجمعنا كأشخاص مرتبطين في مجال العمل الانساني ونتشاطر مجال التعليم والإعلام و المعارف. تتمثل رمزية التنوع الثقافي لحرية الذات والفكر. وكذلك في نفس الوقت بمثابة سلاح سلمي ضد نزعة الانكفاء على الذات والانغلاق واستبعاد الآخر التي تدفع الإنسانية إلى إنكار ذاتها من خلال إهمال ما تنطوي عليه من ثروات.

تعتبر الثقافة عنصراً مسَّرعاً لعملية تحقيق التنمية المستدامة، وقد اعتُرف للثقافة بهذه القدرة في خطة التنمية المستدامة لعام 2030 التي اعتمدتها الأمم المتحدة ودول العالم أجمع كمسار تنموي عالمي. وتمنح الثقافة فرصة فريدة للتوفيق بين الجوانب الاقتصادية والاجتماعية للتنمية - فالسلع والخدمات الثقافية تحمل في طياتها هويات ومعالم وقيم وتمكّن في الوقت ذاته الملايين من المبدعين والفنانين والمهنيين من كسب عيشهم. لذا فإن الاحتفاء بالتنوع الثقافي يعزز فرصهم في مزاولة مهنتهم ويساعدهم على إثراء المشهد الثقافي الذي يثرينا بدوره.

ولذلك فإن التنوع الثقافي، الذي هو حق من حقوق الشعوب، وفطرة في الإنسان وطبيعة في الحياة وسنة في الكون، يقتضي التقاربَ بين الثقافات، بحكم أن التنوع هو مدعاة للتقارب، بخلاف الانغلاق الذي هو سبيل إلى الانكماش المفضي إلى ضمور الثقافات وسقوط الحضارات. 

ولما كان الإسلام يعترف بالاختلاف، فإنه يقرّ بالتنوع الثقافي الناتج عنه، لأنه ظاهرة كونية وحالة طبيعية اتسمت بها حياة المجتمعات الإنسانية على مرّ عصور التاريخ، ومصداقاً لذلك قوله تعالى: (وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّلْعَالِمِينَ) – سورة الروم، الآية 22.

وجدير بالإشارة في هذا الصدد، أن الإعلان الإسلامي حول التنوع الثقافي أكد على وظائف هذا التنوع الذي وصفه العض بـالتنوع الخلاق، باعتباره يخلق الفرص لتنمية العلاقات بين الشعوب والأمم، ولإرساء القواعد الراسخة للتعاون الدولي مع الاحترام للخصوصيات الروحية والثقافية والحضارية. يقول جل وعلا في كتابه الكريم (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) - سورة الحجرات ، الآية 13.

ومن هنا تأتي أهمية "الاعتراف": اعتراف الناس بمكانة وأهمية بعضهم، وضرورة الخروج من شرنقة الذات والانفتاح على العالم الخارجي المليء بالأشخاص المختلفين عني وعما لديّ من أفكار وتصورات.


دور التنوع الثقافي في تعزيز التماسك الاجتماعي 

إن التنوع الثقافي يعزز القيم الإنسانية المشتركة المستمدة من الديانات السماوية والحضارات المتعاقبة، والقوانين الدولية، من ميثاق الأمم المتحدة، إلى الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، ومن قرارات الجمعية العامة للأمم المتحدة في شأن الحوار بين الثقافات والتحالف بين الحضارات، إلى الإعلانات الصادرة عن المنظمات الدولية والإقليمية .

فهو تراث مشترك للبشرية، يتيح للمرء أن ينفتح على الآخرين وأن يبتكر أفكاراً جديدة، ويتيح فرصة ثمينة لتحقيق السلام والتنمية المستدامة ، وهذا يرجع بالأساس إلى الدور الذي يمكن أن تؤديه الثقافة في تشجيع الحوار بين مختلف الأديان، والتقاليد الروحية والإنسانية في عالم يتزايد فيه ربط الصراعات بالانتماء الديني، حيث تنطوي الثقافة على منافع هامة من حيث تحقيق التماسك الاجتماعي .

بالإضافة إلى ذلك، يساعدنا التنوع الثقافي في التعرف على "طرق الوجود" التي ليست بالضرورة ملكنا واحترامها؛ بحيث عندما نتفاعل مع الآخرين يمكننا بناء جسور للثقة والاحترام والتفاهم عبر الثقافات. 

وفي دراسة قدمتها الدكتورة ليانغ ينغ الأستاذة المشاركة بجامعة الدراسات الأجنبية في بكين في فعاليات المؤتمر الإقليمي حول التنوع الثقافي الذي إنعقد تحت شعار (الثقافة جسور الحوار والتفاهم) حيث قدمت فيه ورقة بعنوان "الحوار بين الحضارتين الصينية والعربية"، تناولت فيها هذا الحوار من عدة زوايا؛ أولها أساس الحوار بين الحضارتين الصينية والعربية، باعتبار أن القواسم المشتركة بينهما أكبر من وجوه الاختلاف، ومن هذه القواسم عمق تاريخ الحضارتين، وانتماؤهما إلى الشرق، بما يتميز به من قيم أخلاقية واجتماعية، واتسامهما بخاصيتي التكيف والاحتواء والتجدد، كما أن كلتا الحضارتين تعرضت للغزو الغربي.

واستعرضت ليانغ ينغ أهم إنجازات الحوار بين الحضارتين العربية والصينية تاريخياً وواقعياً، منوهة إلى أن الترجمة بين الحضارتين تعد من أهم هذه الإنجازات، حيث إن أول ترجمة من اللغة العربية إلى اللغة الصينية كانت في العام 1998. وبعدها نشطت حركة التبادل الثقافي والمعرفي، توجت بفتح أكثر من 50 قسماً للغة العربية بالصين ومنها جامعة بكين الشهيرة.

وفي ورقه بحثية اخرى منشورة حول دور التنوع الثقافي في تعزيز التماسك الاجتماعي وضح فيها د. خالد الشرقاوي السموني أنه "لا يمكن أن يتحقق تماسك اجتماعي دون أن يكون هناك استقرار سياسي وأمني ولا يتحقق هذا الاستقرار دون أن تترسخ ثقافة الحوار وروح التسامح والتنوع الفكري، و إرساء قواعد أخلاقية جديدة في المجتمعات تقوم على الاحترام المتبادل وحل الخلافات عبر آليات الحوار والتفاهم". فعندما تعيش مجتمعات بشرية من ثقافات مختلفة في فضاء جغرافي واحد، لا بد من استحضار مفاهيم التسامح والاعتراف المتبادل والتعايش، وأن هذا التعايش يتجلى في ظل “التنوع الثقافي” الذي يعني بالأساس الاعتراف بلغات مختلفة وبتاريخها وكذا بهويات وأديان وتقاليد وأنماط حياة مختلفة وخصوصيات ثقافية مغايرة.

إن القضاء على العنف و التعصب والتمييز العنصري والتطرف يقتضي بناء مجتمع متماسك يحترم قيم الحوار ومبدأ الرأي ورأي الآخر، ومؤسسات قادرة على احتواء الخلافات المذهبية و العرقية و الدينية، لأننا أصبحنا نواجه اليوم عقليات دغمائية و متعصبة تُنصت لذاتها وتنفي الآخر وفق نمط فكري مزدوج يؤمن فقط بأفكاره ويكفر بفكرة الآخر، وهذا الفكر يسبب التفرقة. 

و يرى الباحث ان التنوع الثقافي يلعب دوراً مهماً متناغماً وأنه هو الوسيلة المثلى لمعرفة الآخر والتعرف على ثقافته ونشر قيم التسامح والتفاهم والاحترام المتبادل بين مختلف الأمم والشعوب، وتعزيز السلم والأمن العالميين وتحقيق أهداف التنمية المستدامة و الاسهام في مكافحة التعصب بكافة صوره وأشكاله والتصدي لمظاهر التمييز العنصري، ويسهم كل ذلك في تحقيق التماسك الاجتماعي. 

يذكر البروفيسور أندرو ايلوها وهو مؤلف لعدد من الكتب وكاتب لعدد من المقالات حول التنوع الثقافي "إن نجاح أي مؤسسة يعتمد أولا على قدرتها على إدارة التنوع الثقافي واحترامه والاعتراف بقيمته. وهذا الأمر يتطلب منها تقدير التحول في المعتقد السائد من «كلنا مثل بعضنا» إلى «كل واحد منا فريد بذاته». 

ولكي تجني المؤسسة ثمار التنوع يقول الباحث إنه يجب أن يتم تضمين مفاهيم التنوع في أجندات وخطط التشغيل والاستراتيجيات التي تسير عليها المؤسسة لجعل بيئة العمل تبدو مرحبة بالاختلافات في سمات الأفراد على كل المستويات، وبحيث يشعر الجميع بالقبول والتقدير على ذلك .

إن بيئة العمل التي تتسم بالتنوع الثقافي تكون أكثر تكيفا مع التقلبات السوقية وأذواق العملاء، لأنها أكثر قدرة على إنتاج الحلول المتنوعة ومن مناظير متعددة لتعدد الخبرات والمواهب التي تعمل بها. ووجود التنوع يعزز من إمكانية المشروع للتوسع ودخول أسواق دولية جديدة نتيجة للمعرفة الثقافية التي يمتلكها الموظفون من جنسيات مختلفة .

وإذا كان التنوع قدرنا فيجب أن يكون لدينا، أولًا، مستوى من التفاهم حول بعضنا البعض من أجل تسهيل التعاون؛ حيث يساعدنا التعرف على الثقافات الأخرى في فهم وجهات النظر المختلفة داخل العالم الذي نعيش فيه، وفي تبديد الصور النمطية السلبية والتحيزات الشخصية حول المجموعات المختلفة، وصولاً لعالم أرقى وأسمى تتعاون فيه الإنسانية لما فيه خير المجتمعات والكوكب.

حول المؤلف